عندما تعجز أن تكون
ربما لا يعيب أن يكون احتياجا متبادلا ذلك الذي يربطك بالآخرين.. و أن يولِدَ الاحتياجَ لهاثُك الدائمُ للحقيقة و الجمال اللذيْنِ تجدهما في العالم اللامرئي.. و إن كنتَ تراه وحدك –وحدك فحسب- فهو أفضل من أن ترى العالم الذي لا يراه إلا غيرك و إن كثروا. عندها تكون الحقيقة غاية و الاجتماع وسيلة..
لكن هل يعيبك أن حُوِّلَتْ منكَ الصورة فصارت الجماعة غاية و الحقيقة جزء منها؟؟ ماذا لو امتزجت الحقيقة و الجماعة فصارتا الغاية؟
سمعتُ كثيرًا عن استحالة استمرار جماعة من "المبدعين" أو الفنانين، و أن كل ما ينشأ فإنما ناشئٌ إلى زوال.. استقرأتُ التاريخ فتلا عليَّ الكثير، و أنطقتُ الحقائق –التي أدَّعي تصديقها- فواكَبَتْ تَيّارَه.. فآثرتُ التحدي –الذي أدَّعيه عمادًا- و أعملتُ العزم –الذي أدَّعيه سلاحا- و رفضتُ كل ما لا يُصَدَّقُ مما يرويه التاريخُ نفسه أو يسكن عقول البشرية جمعاء، و قال لي توفيق الحكيم: "لا تصدق ما لا يمكن تصديقه".. فقلتُ "لا".
و "لا" الزائفة.. التي لم تَهَبْني ربة الشعر العقيمة إلاها، سرعان ما تتكسر و تتحلل إلى عواملها الأولية الأكثر عجزا منها.
طالما تأملتُ رسمها، و عجبتُ من تداخل العموديْن قرب جسر التحامهما.. و كان ذلك هاجسًا مُمَوَّهَ الهوية قاتلها.. كنتُ أقول في نفسي لو أن لكل ما يعكسه الظاهر امتدادًا للباطن لأسقطتِ من حسابك الكثير..
- و ما يضيرك لو اجتمع الحرفان بعد أن تقاطعا في نقطة؟
- أحيانًا أراهما على طولهما افترقا في "نقطة".. هل تنتصر نقطة الشك على عماد اليقين؟
علمونا أن كل ما يخالف الطبيعة مَرَضِيّ، و المرض لا يكون الرغبة أبدا.. بل أحيانا يُؤثَر الموتُ إن خُيِّرَ به.. لكن إن كانت أقصى أحلام المرء أن ينسحب من عالمه تدريجيا ليدخل إلى وضعٍ جنينيِّ داخل ذاته يكون فيه كل شيء كما يبغي و كما يحترم عقله، هل يعد نافرا عن الوجود شاذا عن الطبيعة؟ أليست الطبيعة عينها هي التي خالفت ما جَبَلَتْهُ عليه و بَنَتْ واقعا يعافه و يرفضه؟
سهم الذات للذات.. و مملكة الذات لغزان ليس إلى حلهما من سبيل.
*****
الإنسان أوسط اثنين: ملك و شيطان، أو ملك و دابة بكماء، لكنه ليس واحدا منهما مفردا.. و كلُّ ما أحاط دائرةَ أحدهما إنما هو ما نَبذَهُ الآخر أو ما عجز أن يَكونَهُ، و أن كل ما علا في إحدى الدائرتين هو ما لم يمسسه الآخر أو ما أتقنت الدائرة الدفاع عنه، و كل ما يهبط فهو ما مسه الآخر أو نفث فيه من روحه.. فيصعب عليك أن تحول فكرة الجماعة – و أنت تؤمن أنها الحق، و أنها الغاية- من دائرة الملائكية البشرية إلى البهيمية..
- فهل رفضت الملائكية الفكرة؟ هل نبذتها؟!!!!
- أم أنها عجزت أن تحافظ عليها؟
إن صَحَّت الأولى فقد ضللتَ ضلالا مبينا، و إن صحت الأخيرة فهي الهلاك عينه. و عليكَ أن تعترف عندها بزيف عالمك اللامرئي الذي تعيش فيه، أي تعترف بزيفك و عليك أن تعيش الواقع الجديد الذي أَقررتَ فيه بزيفك.. عليكَ أن تكون ما لا تريد، أو ما ترفضه دومًا من الآخر.
"أنت منذ الآن غيرك" يا درويش.. نعم
ربما لا يعيبك أنك لم تستطع حماية بؤرة الملائكية و تشفع لك محاولاتك، لكن هل يعيبك أنك مددت غرسها إلى البؤرة الأخرى؟ هنا أظن القصدَ هو الفيصل الوحيد، فهل كنتَ تريد إغراء الدائرة الأخرى بأبدية النقاء الذي وجدتَهُ هناك؟ هذا لا يعفيك من السؤال.. فقد عرضت السفينة لطوفان لم تكن محصنة ضده..
لكن هل حقا مددتَ غرسها هناك؟! أم هي التي جاءتكَ في ثوبٍ أبيض كالذي تخلعه –واهما أو غير واهم- على دائرتك؟؟
علمتني الحقيقة قانون الجماعة:
· اترك لنفسك و للآخر مساحة مباحة من الخطأ:
نحن لسنا ملائكة، و علينا أن نعي ذلك و أن الخطأ فعل مُقَدَّس و جزء من بشريتنا.. و عكسه ينافي طبيعتنا التي لا تستقيم إلا به. و أنا إن لم نخطئ فقدنا التوازن الحدسيَّ بين المَلَكية و البهيمة و ما إن بغى أحدهما على الآخر انفصمت العُرى.
· على أي عمادٍ نقوم؟ هل بقاؤنا معا غاية أم وسيلة؟ هل اجتمعنا كوسيلة لنفعل ما نريد؟؟ أم اجتمعنا نعمل للوصول إلى الالتحام الأزلي؟ أم ذابت الفكرتان معا فاستحال الفصل بينهما؟؟ إذن إذا زلزلت الأرض بنا ما الأقوى هنا.. الطبيعة التي أنشأت الهزة أم اللاحم الذي ضمنا من البداية؟ الطبيعة من طبيعتها الاهتزاز و عدم الاستقرار، فلا تلام إن مارست فطرتها، فلماذا لا نمارس نحن فطرتنا في محاولة التجمع و التلاحم؟ و لماذا نحاول هدم و إنكار "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" ؟
· الفصل بين الفعل و إرادة وقوع الفعل:
هل تقرأ الآخرين من الداخل؟ أم تعتقد ذلك؟ إن أخرج الآخر تصرفا مُمَوَّهَ القصد، إلى أية كفة ترجحه؟؟ إن فعل الآخر شيئًا رأيت فيه الخطأ أو التعدي هل تظنه متعمدا ذلك؟؟ لماذا؟!!
لماذا نرجح السوء و لماذا نعتبر تفسيرنا للأمر هو التفسير الأوحد و أن تفسير الآخر ما هو إلا تبرير لجريمته النكراء أو محاولة مفضوحة و طبيعية للدفاع عن نفسه أو تجميل فعلته الشنيعة.. لماذا لا تكون هي الحقيقة التي قصدها؟!!!!
علمتني الحقيقة أن لها طعما واحدا..
و علمتني الجماعة ألا وجود للحقيقة!! أو أن الحقيقة نسبية تختلف من عين لأخرى، فعَلَّمْتُ نفسي أن أصدق العبارة الرديئة: "الحقيقة أمام جبال البيرنه هي غيرها وراءها".. فلم أعد أعرف نفسي أو أعرفها!
لو كان في استطاعة جماعة الحق أن تصمد أمام الباطل، لما تقاتل الجمعان في "الجمل،" و لما أدى الخلاف بين الإمام علي و الزبير –عليهما السلام و الرحمة- إلى انشقاقنا حتى اليوم.
"و لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم"
فيا رب هذا الكون.. يا خالق الوجود و مالكه الأوحد، أما ألفت بين قلوبنا؟؟
انهيار كيان إنساني جميل تقرع له الطبول، فهو عيدٌ من أعياد الجهل.. سيمضي أمدٌ أكبر من أحلامك قبل أن يرف الأمل بجناحيه.. و ليتهما لا يكونان جناجين من وهم.
أيتها الجماعة التي أحببتُ:
كوني كما تبغين لكن....... يجب أن تكوني، لأنك إن لم تكوني فلن أكون..
و كم أخشى ألا أكون..
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما كنتم لأرواحـنا.. إلا ريـاحينا
لا تحسبـوا نأيكم عنا يغيرنا إذ طالمـا غير النأي المحبينا
و الله مـا طلبت أهواؤنا بدلاً منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا